الصحراء للمغرب.. والمصالح للجميع

StepMarocAgency
المؤلف StepMarocAgency
تاريخ النشر
آخر تحديث

 




منصات التواصل الاجتماعي، هي بالتأكيد فضاء يلتقي فيه الجميع، العقلاء والمعتوهون، المنصفون والحاقدون، الذين يتكلمون في ما لا يفهمون، والذين لا يتكلمون في إلا في ما يفهمون... هو بحر متلاطم من الفوضى، التي تنتج أحيانا منشورات عاقلة، لكنها ترشُقنا كثيرا بالتحليلات الساذجة، والاستنتاجات المضللة، والقراءات السطحية.
    لذلك، لا يمكن أن يعتبر أي عاقل أن هذا العالم "الافتراضي"
فضاءٌ مثالي لتداول الأخبار، أو ممارسة النقد، أو صياغة التحليلات، وإن اختار أن يغترف منه، فالأجدر به أن يكون حذرا وانتقائيا، لأن الفخاخ كثيرة، والحماقات أكثر، وقد يقع في الأمرين حتى من يَعتقدُ برجاحة عقلهم وموضوعية طرحهم.
    
مناسبة هذا "التذكير"، هي ما تلا إعلان الملك محمد السادس، في خطاب الذكرى السادسة والعشرين لجلوسه على العرش، مساء يوم 29 يوليوز 2025، مرة أخرى، تشبثه بسياسة "اليد الممدودة" تجاه الجزائر، وإبدائه استعداد المغرب التفاوض على حل يحفظ ماء وجه الجميع، لا غالب فيه ولا مغلوب.
الحديث هنا ليس عما يصلنا من الجزائر، فقد بِتنا نعي جيدا أن هذا هو الطبيعي، لكن أن تمضي بعض القراءات الصادرة عن مغاربة، يُفترض أنهم على دراية كافية بملف الصحراء، وعن مبتدئه ومنتهاه، نحو الحديث عن إلباس مضمون الدعوة الملكية قراءات مثل "القبول بالتخلي عن الصحراء" أو "تقاسمها" أو حتى "السيادة المشتركة" عليها، هو بالتأكيد دليل عجزٍ تام عن قراءة السياقات الراهنة والتطورات المتلاحقة.

الأغرب، أن فهم الأمور برصانة، لم يعد يتطلب الكثير من المجهود كما في السابق، ولا ربط أمورٍ بعيدة زمنيا ومكانيا ببعضها، لأن الأحداث متلاحقة، والمؤشرات متواترة، والمعنى يتضح تدريجيًا.

قبل أيام من خطاب العاهل المغربي، أصبحت البرتغال أحدثَ دولة من دول الاتحاد الأوروبي تُعلن دعم مقترح الحكم الذاتي في الصحراء تحت السيادة المغربية، وبالموازاة مع ذلك انتقل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى إيطاليا، مُحملا بعرض اقتصادي اعتقده "مُغريا"، لكنه لم يُفلح في أن ينتزع من رئيسة وزرائها جورجا ميلوني، عبارة واحدة تدعم الطرح الانفصالي، أو حتى تتمسك بـ"تقرير المصير".
بعدها بأيام حل مُسعد بولس، مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المكلف بإفريقيا، بالجزائر العاصمة، والتقى بأحمد عطاف، وزير الدولة المكلف بالشؤون الخارجية، ثم برئيس الجمهورية نفسه، ورغم أن قدومه مُحملا بملف الصحراء أمر مؤكد، وفق تصريحٍ سابق صادر عنه، إلا أن الجزائر، مؤسساتٍ وإعلاماً، لم تنبس ببنت شفة بخصوص ما دار حول هذا الموضوع.
ومن أراد أن يُحسن "التحليل" فعليه أن يركز على أمرين مهمين، الأول أن بولس لم يُجالس أحدا من قيادات جبهة "البوليساريو" الانفصالية، في خطوة لا يمكن ترجمتها إلا كالتالي: في زمن ترامب، الرجل الذي لا يؤمن إلا بالصفقات وبالأمور الملموسة، لا وقت للضحك على الذقون، فالعالم يعلم أن المشكلة بين الجزائر والمغرب، حصرا، والحل بينهما، حصرا أيضا.
أما الأمر الثاني، فهو أن أحد مرافقي بولس إلى الجزائر العاصمة، والذي حضر اجتماعه بعطاف ومن معه، هو جوشوا هاريس، الذي لا زال منذ 2022، أي منذ عهد الرئيس جو بايدن، إلى الآن، يحمل صفة نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون شمال إفريقيا، عبر الموقع الرسمي للخارجية الأمريكية، وفي سنة 2024 كان مرشحا ليصبح السفير الأمريكي الجديد لدى الجزائر.
جوشوا هاريس، لإنعاش الذاكرة، هو أيضا الشخص الذي زار الجزائر في شتنبر 2023، وأخبر قيادات "البوليساريو" بصراحة بأن خيار الانفصال غير ممكن وبأن عليها "التحلي بالواقعية"، ما دفع زعيم الجبهة إبراهيم غالي إلى مراسلة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، من أجل "الشكوى"، ثم زار المسؤول الأمريكي المغرب ليؤكد أن بلاده "تواصل اعتبار المخطط المغربي للحكم الذاتي جادا وواقعيا وذا مصداقية".



قد لا يتمكن الكثيرون من ربط الأمور ببعضها، مهما كانت واضحة ومتقاربة، لكن الحال ليس كذلك بالنسبة للمرشح  الأسبق للانتخابات الرئاسية الجزائرية، نور الدين بوكروح، الوزير الذي تولى حقائب مختلفة في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من 1999 وإلى 2005، والذي نشر مقالا بعنوان "حان وقت الحساب"، يستشعر فيه، وهو الذي يصف نفسه بأنه "مدافع عن القضية الصحراوية"، قُرب طي هذا الملف بما لا يرضي نظام بلاده.
بوكروح كتبَ دون كثيرٍ من الدبلوماسية، أن زيارة بولس "لم تطمئن الجزائريين، الذين يشعرون أنهم سيجدون أنفسهم عما قريب في حفرة أُسود، محاطين بوحوش ضارية لا رحمة فيها"، مضيفا "إلى الآن، تبدو الأمور وكأنها تسير بسلاسة، والتبادلات دبلوماسية ومهذبة، ولكن النتيجة لا مفر منها: سنخسر القضية الصحراوية، على الرغم من عدالتها الأخلاقية والتاريخية، التي دعمتها شخصيا على الدوام"، متوقعا أن وقت "الحساب" قد حان بعد أن أنفقت بلاده "50 مليار دولار في 50 عاما" من أجل "الظل لا الفريسة"، وفق توصيفه.
لنعد الآن لخطاب العاهل المغربي، الذي لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يدعو فيها الجزائر إلى "الحوار"، أو التي يبدي فيها احتراما وتقديرا لشعبها، لكنه كان صريحا هذه المرة، في التأكيد على أن المغرب لا يريد أن يظهر مُرتديا جبة المنتصر، لأن الأولوية القصوى لحل القضية التي عمرت طويلا، لكن الحل، ووفق ما ورد في الخطاب نفسه، لن يكون لا بالتخلي عن الصحراء ولا بتقاسمها.
وقال الملك "إن التزامنا الراسخ باليد الممدودة لأشقائنا في الجزائر، نابع من إيماننا بوحدة شعوبنا، وقدرتنا سويا، على تجاوز هذا الوضع المؤسف، كما نؤكد تمسكنا بالاتحاد المغاربي، واثقين بأنه لن يكون بدون انخراط المغرب والجزائر، مع باقي الدول الشقيقة"، وبعدها مباشرة أورد "إننا نعتز بالدعم الدولي المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي، كحل وحيد للنزاع حول الصحراء المغربية، وفي هذا الإطار، نتقدم بعبارات الشكر والتقدير للمملكة المتحدة الصديقة، وجمهورية البرتغال، على موقفهما البناء، الذي يساند مبادرة الحكم الذاتي، في إطار سيادة المغرب على صحرائه، ويعزز مواقف العديد من الدول عبر العالم".
ومهما سرح المحللون بخيالهم، فلن يجدو أي معنى آخر لاختيار الملك إقفالَ قوسِ مغربية الصحراء وسيادة المملكة على كل تراب الأقاليم الجنوبية، قبل فتح باب "الحل التوافقي"، إلا معنًى واحدا، وهو أن هذا الحل لن يعني إقامة "دولة سادسة" في الفضاء المغاربي بأي شكل من الأشكال.
وجاء في الخطاب "بقدر اعتزازنا بهذه المواقف، التي تناصر الحق والشرعية، بقدر ما نؤكد حرصنا على إيجاد حل توافقي، لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف"، ومن يُحسن قراءة التاريخ، يعلم أن الاقتراب من الحل الدبلوماسي في مثل هذه القضايا المعقدة، يكون بالجلوس إلى الطاولة والنقاش حول الممكن لا المستحيل، والمستحيل بالنسبة للمغرب هو التخلي عن الصحراء، وهو أيضا اقتسامها، لأن هذا الحل رفضته الرباط عندما طرحه جيمس بيكر سنة 2001 رغم موافقة الجزائر، ثم رفضت حتى مجرد مناقشته في 2024 حين حاول ستافان دي ميستورا بعثه من الرماد.


مراجعةٌ سريعة لأصل النزاع، منذ السبعينات، تُثبت أن المغرب لن يقبل بوجود الجزائر، تحت أي مسمى، وبأي مساحة، جنوب حدوده، بشكل يجعل مصير ارتباطها بباقي إفريقيا كلها، رهينا باختياراتها هي، لذلك قال الملك الراحل الحسن الثاني لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، سنة 1974، إنه يُفضل أن تبقى الصحراء محتلة من طرف الإسبان على أن تحيط الجزائر بالمغرب من 3 جهات، ولذلك أيضا تحرك الجيش المغربي لإنهاء تواجد "البوليساريو" في الكركارات سنة 2020.
أما مجالات التفاوض الأخرى فموجودة، وأوضحُها المبادرة المغربية الأطلسية المطروحة على الطاولة من طرف الملك محمد السادس منذ 6 نونبر 2023، والتي تعني، بصريح العبارة، أن الجزائر بإمكانها الحصول على طريق وميناء يربطانها بالمحيط الأطلسي، بما يسمح لها ولدول الساحل معها، بجني مصالح اقتصادية كبيرة، وفق ضمانات ستُعرض على أنظار العالم، لكن تحت السيادة المغربية.
ثم إن طرح الملك لإنهاء الصراع الطويل دون غالب ولا مغلوب، يمكن قراءتها كـ"طوق نجاة" لتبون وشنقريحة، من شأنه أن يُنهي "عقدة النيف" الجزائرية المترسخة شعبيا وإعلاميا والتي لم يتوقف النظام عن اللعب على أوتارها، وكأن العاهل المغربي، الذي يعي طبيعة السُّلطة في الجوار، ويعلم جيدا كيف يُفكر صانعو القرار هناك، يقول لهم: لابأس، نحن من ندعوكم إلى "السلام" ونحن من نقترح إنهاء المباراة "بالتعادل"، ودعونا نلتفت للمصالح المشتركة، التي عطلها الغياب المزمن للاتحاد المغاربي.
كل ذلك، والملك يعلم، والجزائر تعلم، والأمم المتحدة تعلم، والولايات المتحدة الأمريكية تعلم، وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا تعلم، والاتحاد الأوروبي يعلم، والعالم كله يعلم... ما نعلمُه نحن يقينا: وهو أن المغرب لم يكن موقفه يومًا أقوى من الآن في ملف الصحراء، دبلوماسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وإذا لم يُنهِ القضية لصالحه بالتوافق، فسيُنهيها بحُكم الأمر الواقع.

تعليقات

عدد التعليقات : 0