كانوا يخافون من اسمها إذا ذكر في عرض البحر، سفنها لا تمر مرور الكرام بل تقتحم وتضرب وتعود محملة بالغنائم، كانت صقلية تحترق، وتولون ترتجف، وكانت إسبانيا تتلفت كل ما اقتربت سفينة من الأفق، كان المغرب يمتلك أسطولا يرعب خصومه، أسطول لا ينتظر التهديد. بل يبدأ المعركة يضرب من طنجة إلى سراكيوز. ويحاصر سواحل فرنسا. ويربك موانئ البرتغال، كانت الراية المغربية ترفع في البحر، لا لتُرى بل يحسب لها ألف حساب، لكن شيئا ما انكسر و تراجعت القلاع وسقطت الموانئ وتبخر الأسطول وسيطرة إسبانيا على البحر الذي كان يوما تحت أقدام المغرب وتحول الموج من سلاح إلى فراغ وانسحبت الرباط من البحر. أوروبا تمددت والمغرب انكمش وسقطت بيد الأسبان ولم تقم بعدها للأسطول المغربي قائما.
لكن القصة لم تنتهي بعد ففي القرن الواحد والعشرين عاد المغرب إلى البحر لكن ليس بسيوف الموحدين، بل بفرقطاتة فريم وسفن سيجما ، أنشأ القواعدو دخل المناورات وأطلق أكبر مشروع لبناء السفن في إفريقيا يحلم بالغواصات، بينما تراقبه إسبانيا عن قرب. وتحصي أنفاسه في مضيق جبل طارق، فهل يخضع البحر مجددا للراية المغربية؟ في هذا المقال الشيق سنفتح أخطر ملف مغربي، ملف الهيبة البحرية المغربية بين أمواج الماضي وحسابات الحاضر وعيون إسبانيا التي لا تنام.
أسطول المغرب يرعب سواحل أوروبا.
في زمن كانت فيه أوروبا ترتجف كل ما لاح شراع على الأفق، كان المغرب يملك واحدا من أقوى الأساطيل في غرب المتوسط، قوة لم تولد صدفة، بل تكونت بالحديد والنار، أسطول حمل راية المرابطين والموحدين، واجتاح مياه الخصوم قبل أن يدافع عن حدوده. المؤرخون الإسبان وأنفسهم يتحدثون عن غزوات مرعبة. نيكوتيرا في كلابريا الإيطالية سقطت بيد المغاربة عام 1121. ثم مدينة سيراكيوز في صقلية بعد ستة أعوام، وفي الغرب الفرنسي مدينة تولون تعرضت لأربع هجمات متتالية هزت أمن السواحل الفرنسية وأضخمها كان عام 1178، حين انطلقت سفن الموحدين في جزر البليار صوب سواحل مدينة تولون الفرنسية في تحرك إستراتيجي منسق ردا على الحملة الصليبية الثانية. اخترقوا التحصينات نفذوا ضربتهم، وأعادوا التوازن في البحر المتوسط، لتدون الغزوة في أرشيف البحرية الأوروبية، بوصفها واحدة من أكثر الهجمات دقة وجرأة في القرن الثاني عشر. ووفقا لما ورد في كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي، فإن الأمير إسحاق بن محمد كان قائدا مباشرا لإحدى تلك الغزوات، فيما تشهد الوثائق الفرنسية نفسها أن الموحدين. زرعوا الرعب في سواحل أوروبا، وأعادوا رسم موازين القوى البحرية لعقود فالبحر لم يكن حدودا للمغرب، بل بوابة هجوم هكذا تأسست إمبراطورية بحرية مغربية لم تكن دفاعية بل قوة هجومية أرعبت البرتغاليين والإسبان، قبل أن تتفتت بفعل الصراعات الداخلية.
المغرب يطوق السواحل بالنار.
حين كانت جيوش أوروبا تبني حصونها على البر، كان المغرب يحكم قبضته على البحر، ليس بأسطوله فقط، بل بموانئه على امتداد الساحل الأطلسي والمتوسطي. كانت هناك جبهات مفتوحة بالمراسي والسفن من سبتة التي ظلت شريانا للتجارة والقتال إلى طنجة التي تحولت إلى عين البحر على أوروبا مرورا بأسفي والجديدة وأصيلة حيث لم تكن تلك المدن مجرد مرافئة تجارية. بل قواعد إستراتيجية للربط بين المغرب والأندلس، وللإنطلاق نحو سواحل فرنسا وإيطاليا وحتى جنوب بريطانيا. موانئ بنيت وفق منظومة دقيقة من التحصين والنقل والتخزين،
وفي ذروة عصر الموحدين كانت السفن تصنع وتجهز وتنطلق من هذه النقاط، لتفرض توازن قوى في غرب المتوسط. شهد بذلك المؤرخون الأوروبيون قبل العرب. لم تكن تلك المدن مدنا ساحلية بالمعنى السياحي الحديث لكن كان القرار العسكري والاقتصادي يدار منها التموين البحري والتجنيد والتفاوض وحتى الدبلوماسية، وفي لحظة سقوط الأندلس انفجرت الكارثة من البحر نفسه. الموانئ التي كانت تصدر القوة أصبحت في مرمى الهجوم المضاد. أغلقت المنافذ واحتل بعضها، ودخل تجارة المتوسط في قبضة الأوروبيين، ومنذ تلك اللحظة بدأ البحر يتحول من مجال نفوذ مغربي إلى ساحة انسحاب تدريجي.
من دمر القوة البحرية المغربية؟
كانت السفن ترفع الراية من طنجة. والموانئ تضج بالحركة من آسفي إلى سبتة لكن فجأة ساد الصمت الأسطول الذي كانت أوروبا تهابه. تراجع، ثم تبخر. السؤال ليس فقط من هزم القوة البحرية المغربية. لماذا لم يقاتل المغرب دفاعا عن بحره كما قاتل في البر؟ الجواب يبدأ من الداخل، قبل الخارج،
في القرن الخامس عشر دخلت الدولة المغربية مرحلة من التفتت الدولة الموحدية سقطت، وخلفها جاءت سلطات متنازعة، المرينيون، ثم الوطاسيون ثم السعديون، وكان كل نظام يحاول إعادة بناء كل ما انهار، لكن على عجل وبلا رؤية بحرية مستدامة. وفي الوقت نفسه، كان البرتغاليون والإسبان يزحفون على السواحل. سبتة سقطت عام 1415، ثم أصيلة ثم طنجة ثم المعمورة، ثم الجديدة، والمغرب. لم يكن يملك آنذاك قوة بحرية منظمة لردع هذا التمدد. التحول الحقيقي جاء مع ما وصفه المؤرخون بتغير مسارات التجارة العالمية. بعد سقوط الأندلس بدأت خطوط التجارة تتجه غربا نحو المحيط. واكتشف طريق رأس الرجاء الصالح، وأصبح المتوسط أقل أهمية وتحول الأطلسي إلى مركز التجارة الاستعمارية الجديدة. فجأة فقدت الموانئ المغربية زخمها، وأفرغت من محتواها العسكري، وبات البحر مجرد خلفية جغرافية لا أكثر. وحتى عندما حاول السلطان محمد بن عبد الله في القرن الثامن عشر، إحياء الأسطول المغربي، وبنا سفنا ضخمة في سلا والعرائش، لم تصمد التجربة. لأنه كان يواجه قوى بحرية صاعدة من فرنسا، إسبانيا، بريطانيا، والمغرب كان يواجه وحده بدون تحالفات قوية وبميزانية لا تملك مقومات بناء منظومة بحرية مستقلة. المؤرخة ليلى مزيان، وفي كتابها عن التاريخ البحري المغربي تشير إلى أن المغرب تحول بعد سقوط الأندلس من قوة بحرية مهاجمة إلى دولة منكمشة تدافع من اليابسة. وتراجع نفوذ الدولة المغربية المركزية على السواحل لصالح قوى القرصنة أو الفوضى المحلية. لكن السؤال الأهم، هل انتهت القصة هنا؟ أم أن القرن الواحد وال20 سيشهد عودة المغرب إلى البحر؟
المغرب يعود إلى البحر.
بعد قرون من الانكفاء عاد المغرب إلى البحر لا سائحا، بل لاعبا يسعى لاستعادة موقعه القديم، لكن هذه المرة بالتحالفات والموانئ والتكنولوجيا. التحول بدأ مع أزمة جزيرة ليلى عام 2002، حين احتلت قوة كوماندوز إسبانية جزيرة صغيرة قرب السواحل المغربية، فاكتشف المغرب أنه بلا مخالب بحرية حقيقية، لا غواصات، ولا قواعد متقدمة، ولا أسطول قادرا على الرد، ومن هنا بدأ التحول في عام 2008 حيث أنشئت أكبر قاعدة بحرية مغربية في القصر الصغير شمال البلاد المملكة على بعد كيلو مترات من سبتة، وزودت القاعدة بفرقاطات فلوريال الفرنسية. وسفن سيجما الهولندية، وفرقاطة فريم الفرنسية المتطورة، ودخلت البحرية المغربية في مناورات مع الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية، لكن القوة البحرية لا تبنى بسفن فقط بل بالعقيدة العسكرية وجاهزية الطواقم والسيطرة على خطوط الإمداد، وربط البحر بالبر في إستراتيجية وطنية. وحتى الآن لا يملك المغرب غواصات رغم امتلاك الجزائر لأسطول روسي. وإسبانيا لغواصات هجومية متقدمة. ورغم خطط التوسع، لا تزال الصناعة البحرية الوطنية ضعيفة، إذ لم تتعدى مساهمتها 0.01% من الناتج الداخلي حتى 2023، في مقابل إنفاق 1.4 1,000,000,000 دولار على استيراد السفن خلال 20 عاما. هذا الخلل لا يقاس فقط بالمال، بل بالتبعية في التموين والصيانة وقطع الغيار. وهو ما يجعل الأمن البحري المغربي رهينة لعقود خارجية. فالتحدي يزداد تعقيدا في منطقة مضيق جبل طارق، حيث تفرض بريطانيا وإسبانيا وأمريكا نفوذا أطلسيا متماسكا، بينما يسعى المغرب إلى إيجاد موطئ قدم دون أن يمتلك أدوات الردع الكاملة، وفي ظل رقابة دقيقة لأي تسليح أو تحرك اقتصاديا، أطلق المغرب مشروعا ضخما في الدار البيضاء بالتعاون مع هيونداي الكورية. لإنشاء أكبر حوض لبناء السفن في إفريقيا، ويهدف لامتلاك أسطول تجاري من 100 سفينة بحلول 2030. بدلا من 16 فقط، خبراء يصفون هذا التحول بأنه مسألة سيادة، لا صناعة فقط، فامتلاك أسطول تجاري وعسكري يعني القدرة على المناورة وقت الأزمات وضمان الأمن الاقتصادي واللوجستي في زمن تتقاطع فيه الجغرافيا بالقوة، المغرب لم يعد غائبا عن البحر، لكنه لم يستعد عرشه البحري بعد، فهل تكون العودة مجرد حلم عابر؟ أم بداية لانبعاث إمبراطورية بحرية تكتب التاريخ من جديد؟